هل ستقود خطط المصرف المركزي لخنق السوق السوداء أم ستزيد من تغولها.
نشر بتاريخ:
طرابلس 03 أغسطس 2025( وال ) - عزا خبراء اقتصاديون وماليون أسباب مواصلة انهيار الدينار الليبي وارتفاع سعر الدولار في السوق السوداء بعد أن تجاوز عتبة الـ 8 دنانير في يوليو الماضي قبل أن يتقهقر مطلع هذا الشهر ليستقر ما بين 7.77 و 7.60 دينار إلى عدة عوامل، أبرزها، تراجع الاحتياطي من العملة الصعبة، اعتماد ليبيا في اقتصادها الريعي على عائدات النفط كمورد رئيسي ووحيد، استشراء الفساد ونهب المال العام، تهريب العملة الصعبة إلى الخارج بشكل غير مسبوق، الاستيراد غير المنظم وغير المدروس لكافة احتياجات البلاد (الغداء، الدواء، السلع الاستهلاكية)، فشل السلطة في السيطرة على السوق الموازية، وقد تكون متواطئة معها، تفاقم الانقسام السياسي وضعف المؤسسات القائمة، ارتهان القرار الليبي إلى قوى وأجندات خارجية، تدخل مصارف دول أجنبية في السوق السوداء في ليبيا، عجز المصرف المركزي والوزارات المختصة على ضبط سياسات تساعد على توطين الصناعات والإنتاج المحلي.
وتعيش ليبيا منذ سحب فئة الـ 50 دينار في أبريل 2025، ما أدى إلى ارتفاع الدولار في السوق السوداء، على ملامح أزمة نقدية جديدة بعد قرار مصرف ليبيا المركزي سحب فئتي الـ 20 والـ 5 دينار من التداول (إصدارات سابقة).
وأثار قرار المصرف المركزي الذي حدد يوم 30 سبتمبر القادم كآخر موعد للتعامل بالفئات المسحوبة، الكثير من الجدل في الأوساط الاقتصادية وفي الشارع الليبي عموما، وانقسمت الآراء بين ارتفاع جديد للدولار الأمريكي وانهيار الدينار الليبي واشتعال الأسعار، أو تعافي الدينار الليبي وضبط السوق خاصة مع قرارات المصرف المركزي منح أذونات عمل لشركات خاصة للصرافة كتوطئة للقضاء على السوق السوداء المتغولة في البلاد.
ورأى الخبير الاقتصادي الليبي، عضو هيئة التدريس بجامعة طرابلس، د. أسامة الأزرق، أن من أبرز المشاكل التي يُعاني منها الاقتصاد الليبي وتؤدي باستمرار إلى ارتفاع الدولار في السوق الموازي، الطلب العالي جدا للسوق على الدولار، من قبل المضاربين والتجار ورجال الأعمال والمواطنين نظرا لكون كل شيء مستورد في ليبيا، (السلع والخدمات)، إلى جانب انعدام الثقة في النظام المصرفي الليبي، سحب إصدارات من التداول، الانقسام السياسي والمؤسساتي، وهي عوامل تدفع بطبيعتها إلى انعدام الثقة في العملة المحلية وبالتالي زيادة الطلب على العملة الصعبة.
وأضاف الأزرق في مقابلة مع وكالة الأنباء الليبية (وال)، أن مشكلة العملة المزورة من فئة الـ 50 والـ 20 دينارا، ساهمت كذلك في إضعاف الدينار الليبي وارتفاع الدولار الأمريكي في السوق الموازي وانهيار الاقتصاد الوطني بشكل كبير ناهيك عن اشتعال الأسعار ما أجبر المصرف المركزي على اتخاذ قرار سحب العملة المزورة من التداول، وهي مبالغ كبيرة بالمليارات، مشيرا إلى أن هذا القرار أدى إلى ارتفاع سعر العملة الصعبة جراء زيادة الطلب عليها في عملية شبيهة بغسيل الأموال، وصاحب ذلك عملية تضخم غير مسبوقة.
ووصف الخبير الاقتصادي الليبي قرار المصرف المركزي بسحب فئتي الـ 20 والـ 5 دينار بـ "الممتاز" كونه يوحد السياسة النقدية على الأقل ويوقف نزيف ضخ العملة المزورة.
ورأى أن عملية سحب هذه الفئات من التداول ستسبب ارتفاعا في سعر الدولار بصورة مؤقتة بسبب إقبال الذين تتكدس عندهم هذه الفئة على شراء الدولار، وقد بدأت بالفعل، مبينا أن ذلك سيكون لفترة مؤقتة قبل أن يبدأ الدينار الليبي في التعافي.
ودعا الأزرق إلى ضرورة سحب هذه الفئة نهائيا وتجاوز التشوهات التي صاحبت سحب فئة الـ 50 دينارا حيث كانت المصارف تستلم هذه الفئة وتُعيد ضخها في السوق.
غير أنه لاحظ أن الآثار السلبية التي ستترتب على عملية السحب في الفترة القصيرة ستقود إلى ارتفاع سعر الدولار مثل ما حدث مع سحب فئة الـ 50 دينارا حيث سيقوم الذين تتكدس عندهم هذه الأموال خارج المصارف بالإقدام على شراء الدولار، وهو ما يحدث الآن في السوق ما جعل العملة الخضراء تتجاوز عتبة الـ 8 دنانير لكنها سرعان ما ستتقهقر، بحسب قوله.
وأوضح أن هذه الخطوة ضرورة ملحة لوضع أسس سياسة نقدية ناجعة ولا يُوجد بديل آخر أمام المصرف المركزي للإصلاح إلا بالتخلص من العملة الرديئة.
واستطرد الخبير الاقتصادي الليبي أن الإدارة الجديدة للمصرف المركزي جاءت في ظروف معقدة في ظل انقسام سياسي وانقسام حكومي ووجود مصرفين مركزيين شرقا وغربا ما يعني وجود سياسات نقدية ومالية متعددة وبالتالي، كان لزاما، وفق رأيه، توحيد المصرف المركزي ووضع سياسة نقدية ومالية واحدة للتخلص من المضاربة وردم الهوة بين سعر الدولار الرسمي والموازي. ومن هنا لجأ المصرف المركزي إلى شركات الصرافة، وهو ما يتبعه العالم لضخ العملة الصعبة في السوق المحلي، التي ستعمل وفق نظم محددة بالقانون وهي خطوة قد تجنب استنزاف الاحتياطي.
وقال في هذا الصدد "إن الاحتياطي يُعتبر صمام الأمان لأي دولة من خطر الإفلاس ويجنبها مهالك الاستدانة من المصرف الدولي أو البنك الدولي ... لكن يتعين استثمار هذا الاحتياطي والمحافظة عليه. ولاحظنا بأن الاحتياطي لدى المصرف المركزي بدأ يتذبذب نتيجة الفساد المالي والانفاق الحكومي المُشط وانزلاق ليبيا إلى مجتمع استهلاكي بالكامل فالدولة لا تنتج أي شيء وليس لدينا أي مصدر آخر للعملة الصعبة غير النفط"، محذرا من أن استمرار هذه السياسة غير الرشيدة واستمرار الفساد والانفاق الحكومي العالي سوف يؤدي إلى تآكل الاحتياطي ومواجهة ليبيا خطر الإفلاس".
وتابع أن الظواهر السيئة والتشوهات في السياسات النقدية والمالية تستنزف الاحتياطي، وبما أن من بين أهم وظائف المصرف المركزي إدارة الاحتياطي وتنميته واستثماره والمحافظة عليه، يتعين على السلطة الجديدة في مصرف ليبيا المركزي العمل على تنمية الاحتياطي بالتعاون مع السلطتين التنفيذية والتشريعية من خلال تبني خطط مالية واقتصادية وتجارية تتواكب مع بعضها في إطار خطط تنموية لتنمية الاحتياطي وخلق مصادر أخرى للعملة الصعبة من غير النفط.
وعبر الخبير الاقتصادي الليبي عن أسفه لاستمرار تدهور الوضع الاقتصادي في البلاد ودفعه فواتير باهظة مع استمرار زيادة فاتورة المرتبات شهريا وفواتير الانفاق الحكومي غير المسبوق والانفاق الاستهلاكي للمواطنين وفواتير التهريب التي يتم تغطيتها جميعها من الاحتياطي المعرض للنضوب إذا استمرت هذه الوتيرة في الانفاق.
وحث الأزرق على تسريع تشكيل حكومة واحدة لوقف الازدواجية في الصرف ووضع ميزانية عامة للدولة يتم من خلالها تحديد أوجه الصرف والقضاء على الفساد والانفاق الحكومي العالي وغير المبرر، ووضع حد للتهريب، وجميعها تشوهات للاقتصاد الليبي.
ودعا عضو هيئة التدريس، الخبير الاقتصادي الليبي، المسؤولين في السلطتين التشريعية والتنفيذية أن يضعوا نصب أعينهم الوضع السيء جدا للاقتصاد الليبي والتفكير في بدائل للنفط المصدر الوحيد المهدد، إما بالنضوب أو بتراجع الطلب عليه أمام التطور التكنولوجي والطاقات الجديدة النظيفة، مشيرا إلى أن ليبيا تمتلك عدة بدائل للنفط منها الطاقة الشمسية التي يجب استغلالها.
من جهته قال الخبير المصرفي، محمد احمد البشير، إن أسباب تغيير العملة من فئتي الـ 20 والـ 5 دينار، تعود إلى وجود فائض في العملة الورقية وعملة مزورة سببت حالة من التضخم غير المسبوقة مؤكدا أن العملة المتداولة اليوم سببت تضخما غير مسبوق في الاقتصاد الليبي.
وأضاف أن كميات الدينار الليبي المتداولة في السوق تفوق ما طبعه مصرف ليبيا المركزي ما أدى إلى ارتفاع العملة الصعبة واشتعال أسعار السلع مشيرا إلى أن تحسين الوضع المالي وتراجع الدولار لن يكون ممكنا إلا بعد سحب فئتي الـ 20 والـ 5 دينار خاصة على ضوء ما صرح به محافظ مصرف ليبيا المركزي حول فتح الاعتمادات والضوابط التي سيتم فرضها على استيراد السلع منها شرط الاستيراد عبر القنوات الرسمية من خلال حوالات مصرفية وعبر شركات الصرافة في مرحلة لاحقة.
وحول آلية استبدال فئتي الـ 20 والـ 5 دينار أوضح الخبير المالي الليبي أن المصارف ليست ملزمة باستبدال القيمة المودعة بالكامل حتى لا تبقى الدولة تحت سلطة السوق السوداء من جديد مبينا أن السحب اليومي والشهري من الأموال المودعة سيكون وفق القيمة التي سيحددها مصرف ليبيا المركزي حتى لا تستقر هذه الأموال مرة أخرى بين أيدي المضاربين والتجار.
واستطرد قائلا: " إن استبدال الفئات المسحوبة بالفئات الجديدة يعني أن المصرف المركزي لم يقم بأي شيء وستضخ الأموال من جديد في السوق السوداء وبالتالي لن يتم السيطرة عليها نهائيا كاشفا أن التغيير سيطال فئة الـ 10 دنانير مستقبلا لاستكمال السيطرة على الفائض من الأموال وتجفيف السوق السوداء".
أما بخصوص شحن بطاقة الدولار للأغراض الشخصية، رأى البشير أن العملية بسيطة ويُوجد الكثير من الخيارات منها تغذية الحساب الشخصي بأي فئة من فئات العملة خلال فترة سحب فئتي الـ 20 والـ 5 دينار وبعد ذلك ستكون العملية عادية وتكون التعبئة نقدا أو بالصك لشحن بطاقات الأغراض الشخصية التي يذهب أغلبها إلى المضاربين والتجار كما هو معروف للأسف الشديد.
وخلُص البشير إلى أن الحل الأمثل والعملية الأسهل للمواطنين الذين يقومون بإيداع أموالهم في حساباتهم الخاصة التوجه إلى العمليات الالكترونية.
تغولت السوق السوداء في ليبيا مع بداية 2014 ومازالت تفرض سلطتها على الاقتصاد الليبي وتتحكم في قوت الليبيين إلى اليوم، ويبدو أن كثيرين في المشهد الليبي المتأزم وجدوا ضالتهم فيها.
وأصبحت هذه السوق مع مرور السنوات نظاما مصرفيا موازيا بشبابيك ايداع وسحب ومنظومات إيداع وتحويل لمصارف أجنبية، إماراتية وتركية، تعمل في وضح النهار أمام مرأى ومسمع الجميع، بما في ذلك الأجهزة الأمنية، في خاصرة المصرف المركزي في قلب ميدان الساعة بطرابلس وزنقة الريح وسوق الترك الذي فقد هويته لصالح شبابيك بيع العملات والتحويلات الفورية لكافة أنحاء العالم.
وتتنقل العملات، الدينار المنهار والدولار واليورو، بمئات الملايين في عربات يدوية (براويط مرمة) يدفعها عمال مهاجرون، في الوقت الذي تتشكل فيه طوابير طويلة من المواطنين نهاية كل شهر أمام المصارف وآلات السحب الإلكترونية، لسحب مرتباتهم التي سينتهي بها المطاف في هذه السوق مقابل سلع استهلاكية وهمية استوردها تجار الحروب والأزمات.
وأدانت الباحثة في أكاديمية الدراسات العليا بطرابلس، سالمة محمد، تماهي السلطات المسؤولة مع هذه السوق والرضوخ لها وحملتها مسؤولية المساهمة في تغول هذه السوق سواء بالصمت أو التواطؤ مع جرائم غسيل الأموال المنهوبة التي أثقلت كاهل المواطنين ونشرت الفقر في ليبيا التي تسبح على بحيرات من النفط والغاز. (الأنباء الليبية)
متابعة وتصوير: أميرة التومي – زهرة الفيتوري
(وال) .